قصة قصيرة .. التوأم

جاسم الحمود

كانا توأماً حقيقياً الشبهُ بينهما كبيرٌ جداً، يختلفان فقط بوقعِ خطاهما ونبرةِ الصوت، ولم يكن أحدٌ يميز بينهما سوى عائلتهما والمقربين جداً.

حملتْ يازي الحمد ولم تكنْ تعرف أنّها تحمل توأماً، في تلك الأيام كان الذهاب للطبيب ترفاً بالنسبة لأهل المدينةِ فكيف بأهل قريةٍ بعيدةٍ، إذا مرض صبيٌ تلمسوا جبهته، فإنْ كانت حرارته عاليةً؛ قالوا محمومٌ ثم ربطوا بيده خيطاً أخضر من مقام أويس القرني، وانصرفوا قانعين بأنّ هذا أفضل علاجٍ، أما النساء فلا يمرضن وإنْ مرضن فأمّ عبد الداية هي طبيبة النساء.

ولدا في ليلةٍ شتويةٍ باردةٍ، قطعتِ الداية أمّ عبد الحبلَ السرّي ولفّت المولود بخرقٍ من قماشٍ أبيض مجهزة مسبقاً له، ثمّ صاحت:

- احضروا خرقاً أخرى.

نظرت إليها أمّ يازي بصمتٍ، فصاحت بها الداية:

-لا تنظري إليّ مثل الثولة.. بنتك ببطنها مولودٌ آخر.

رغم ألم يازي ابتسمتْ وصرخت:

- أمانة الله يا أمّ عبد!!!

في حين قامت أمّ يازي تتعثر بارتباكها وهي تقلّب بصرها في الغرفة الفقيرة، فأنقذتها ابنتها من حيرتها:

- يمّا لا تدوري ما عنا إلا هالخرقة.

في تلك اللحظة كانت أمّ عبد قدْ قطعت الحبل السرّي للمولود الثاني، وهي تبشر يازي:

- والثاني ولد... صار عندك ولدين يا يازي.

ثمّ التفتت إلى أمّ يازي:

- اقعدي يا عجوز ما منك نفع، رح ألف الولدين بقطعة وحدة، اعطيني اللحاف أغطيهم البرد يطعن الكبير ما بالك بالوليد.

وضعت أمّ عبد حسن وحسين متلاصقين في خرقةٍ واحدة رصّتهما على بعض كما اعتادت أنْ ترصّ قطع البندورة في سحارة الخشب، كان برداً طاعناً كما وصفته أمّ عبد، وربّما هو السبب بأن استجاب المولودان ليديّ أمّ عبد، فالتصقا ببعضٍ أكثر بحثاً عن الدفء، وعندما أرادت الجدّة أم يازي أن تحمل أحد الطفلين لأمه لترضعه بدا وكأنّه يتشبث بأخيه.

كبر حسن وحسين بتشابهٍ تام؛ أولى خطوات المشي المتعثرة، بداية تأتأة الحروف، كلّها كانت بمسارٍ واحد، كبرا بسرعةٍ، يلعبان سويا يخرجان سويا ينامان سويا، إنْ أكل أحدهما رغيفاً فأكيدٌ أنّ الثاني أكل رغيفاً فقط، وبما أنّ للطفولة والصبا شقاوات ونزوات، إذا أراد الأب معاقبة أحدهما، يطرح الآخر نفسه أمام أبيه طالباً تقسيم العقوبة بينهما.

كبرا وتزوجا من أختين، لم يقتسما الأرضَ ظلا يعملان فيها سويا، ولم يقتسما البيت؛ بنيا غرفاً لكن لم يفصلوا بينها بسورٍ، تجاوزا الستين وكَبُر أولادهما وصار عندهما أحفاد وظلا متلازمين دوماً.

ذات ظهيرةٍ أحسّ حسنٌ بألمٍ في صدره، فأخذه ابنه للطبيب ورافقه حسين، بعد الفحوصات تبيّن أنّ حسن مريضٌ بالقلب، طلب حسين من الطبيب أنْ يعمل له أيضا ذات الفحوصات سأله الطبيب إنْ كان يعاني من أيّ ألمٍ نفى حسين لكنّه أصرّ على طلبه؛ فلا يعقل أنْ يكون حسن مريضاً ويظلّ هو معافى، تبين بعد الفحوصات أنّه مريض أيضاً بالقلب وبنفس الدرجة وإن لم تظهر الأعراض بعد.

الطائرات تحلق في سماءِ المنطقة، والأخبار تتوالى عن اقتراب قوات التحالف من جهة الشمال، وقوات داعش تحصنت من جهة الجنوب، والقرية ستكون بين نارين، وربّما تكون ساحةً للمعارك فكان القرار جماعياً: أنْ ينزح أهل القرية لحين انتهاء المعركة المرتقبة.

انتهى حسن من الوضوء وقبل أن يمدّ سجادة الصلاة وقع أرضاً، طبيب القرية أخبرهم أنّها جلطةٌ قوية، طلب حسين من الطبيب أن يفحصه، فحصه الطبيب وأخبره أنه بخير، بكى حسين هامساً بمرارة: كيف؟! ليس من المعقول أن يصاب حسن بجلطة ولا أصاب أنا، أحس بوخزةٍ في صدره، وخزة حسرة أنّه لأول مرة لا يعاني ما يعانيه حسن.

مضت بضعة أيام وحسن راقدٌ في الفراش، بدأ القصف وصارت القذائف تمرّ فوق البيوت وبعضها سقط في القرية، سادت الفوضى وبدأ الناس في مغادرة القرية، استعدت العائلة للرحيل لكن حسن رفض مغادرة بيته رغم إلحاح أبنائه وأبناء أخيه، وعندما أكثروا الرجاء صرخ بضعفٍ:

- أنا على مرمى ساعات من الموت ولن أموت محمولاً على الطريق أو في البرية، سأموت هنا في بيتي ولن أغادره لو تقاتل كل العالم هنا أمام عتبة البيت.

لم تنفع كل حيلةٍ أو رجاء معه، فالتفت ابن حسن إلى العائلة التي تنتظر:

- اذهبوا أنتم أنا سأبقى مع أبي.

نهره عمّه حسين:

- بل أنا سأبقى معه أنت شاب في مقتبل العمر لا تغامر بحياتك، أنا سأبقى مع أخي لأنّي واثق من أنّنا سنموت معاً.

تدخل حسن:

- لا اذهبوا كلكم ودعوني هنا، ضعوا بعض الماء والخبز عند فراشي وارحلوا جميعاً.

استمر الجدال واشتد القصف، شدّ حسن عزيمته وأمر الجميع بالرحيل، خرجت العائلة بقدمٍ مكرهةٍ تخطو للأمام وعينا دامعةً ترنو للخلف.

بقي حسن وحسين في الغرفةِ الكبيرة، مرّت ليلةٌ صعبة عليهما، هجر النوم عيني حسين؛ فأنين أخيه حسن ايقظ الخوف من الفراق في قلبه، لكنّ التعب هدّه فغفلتْ عينه بعد شروق الشمس بقليل، غفوة خفيفة استيقظ منها على صوت أخيه حسن يعلو بالشهادة، فتح عينيه كان الأمر قد انتهى؛ اليد التي ارتفعت بسبابتها سقطت جانباً، سكنت العين وقرّت الروح، بكى حسين بمرارة... احتضن أخاه هزّه وناداه كأمٍ مكلومة: أخي لا يجوز أنْ ترحل وحدك، جئنا للحياة معاً وعشنا متلازمين، أبصرتَ نور الحياة قبلي بدقيقة فقط، فهل يعقل أنْ ترحل قبلي وأظلّ حياً، قلْ إنك لم تمت هو ضيقُ نفسٍ، اطمئن سافتح الباب ليدخل الهواء للغرفة، هبّ حسين واقفاً مقتنعاً أنّ حسن سيفتح عينيه عندما يستنشق هواءً نقياً خطا برجلٍ واهنة، فتح النافذة، ثمّ اتجه للباب فتحه وأراد أنْ يسند الباب بحجرٍ صغيرٍ، لكن ما إنْ خطت رجله بعد العتبة حتى جاءته رصاصة القناص، ارتمى أرضاً وهو يبتسم... مدّ يده لأخيه وهمس راضياً:

- الآن تأكّدت أنّك متّ يا أخي.. ليس من المعقول أن ترحل وحدك.

* قاص سوري

Provided by SyndiGate Media Inc. (Syndigate.info).

2024-05-07T18:06:32Z dg43tfdfdgfd