قصة قصيرة .. في بيتنا صالحة

عواطف الزين

في لحظة البحث عن الذات تقرأ وتسمع وترى وتتحدث لتكتشف نفسها أين هي وفي أي مكان؟ وهل الزمان بقادر على ان يمنحها صفاتها التي تطمح إليها، ترمي وداد بسؤالها في خضم تشكل ملامح صباها وأثناء بحثها عما يمكن أن يضيفه المكان إليها، هذا البيت الكبير ماذا يعني لها؟

كانت في العاشرة من عمرها عندما بدأت تتلمس ملامح شخصيتها المكدسة بالاسئلة. هي لا تعرف سوى قريتها التي ولدت فيها تحت ذلك السقف العالي للمنزل الكبير الذي تعيش فيه اسرتها ومعهم طيور السنونو التي بنت اعشاشها في زواياه، كأنها تتحدى البيت وأهله.

- غريب هذا الامر تقول وداد لأمها كيف يسكن هذا الطائر بيتنا ولماذا؟

دعك من هذا الأمر يا حبيبتي واهتمي بدروسك، تقول لها الأم بعجالة وتتابع أداء مهام يومها المثقل بالشقاء والتعب.

لا تجد أمينة (الأم) وقتا لنفسها الا نادرا، فهي تدرك في قرارة نفسها ان الخير آت لا محالة، وإن تأخر! لديها يقين ثابت بأن كل حركة ظاهرة او مخفية تسمعها في ارجاء هذا المنزل فيها بركة، لذلك هي لا تهدأ ولا تستكين وتقوم بمهامها على أكمل وجه، من الوقوف في المطبخ الى الجلوس في الدكان لمساعدة زوجها وتتبع احواله في تجارته البسيطة التي يبيعها لأهل الحي والمارة حيث يمتلئ دكانه بمزيج متعدد الاشكال والألوان من البضائع التي يحتاجها اهل الحي من معلبات وخضار وحلويات والعاب، فالمعيشة تحتاج الى القيام بالكثير من اجلها لتبقى القدرة على الحياة قائمة.

في يومه المزدحم بالمشاوير يقسّم صابر العبد وقته بين مكانين الدكان والمقهى مقدما لزبائنه حاجياتهم وطلباتهم من الاغذية والمشروبات الساخنة والباردة، لذلك تجد امينة نفسها في وضع لا تحسد عليه، منذ تزوجت صابر العبد وهي صابرة على نصيبها من الدنيا، إذ عليها القيام بمهام كثيرة غير الطبخ والكنس والغسيل والذهاب الى الفرن وعين الماء لجلب احتياجاتها اليومية منه قبل ان يحط الليل رحاله فتسقط منهكة بفعل النهار.

لكن أسئلة وداد التي تأخذ طابع الإلحاح للمعرفة تؤرقها، فترد عليها وهي ترتب غطاء رأسها الذي ينحسر من مكانه، فتغطي جزءا من جبهتها وجانبي الوجه فتبدو العينين الرماديتين بكامل سحرهما المقيم.

تقول جدتك يا وداد ان طائر السنونو هو اشارة خير كذلك الصالحة التي تسكن بيتنا هي جالبة للرزق، ونحن نريد ان نلتقط كل اشارة خيّرة فما أحوجنا اليها.

تشعر الابنة بشيء من الرهبة وهي تصغي لكلام امها عن الصالحة «الجنية» التي تتقاسم معهم المكان. تتذكر انها سمعت شيئا عن هذا الأمر من والدها لكنها لم تفهم ما كان يقصده ولم تتخيله، تريد الآن أن تعرف اكثر، فتردد بينها وبين نفسها في حالة من الذهول «في بيتنا صالحة»، في بيتنا سنونو أين نحن؟

تحاول وداد أن تتخيل شكل «الصالحة» بعد ان وصفتها امها بلباسها الابيض وشعرها الطويل المنسدل على كتفيها، وتريد أن تعرف أين تسكن هذه الصالحة في هذا البيت الصخري القديم؟ أين موقعها بين تلك الغرف الثلاث الصغيرة المطلة على باحة البيت،هل هي جالبة للخير فعلا ام انها لعنة تلاحق أسرتها؟ تتذكر ما سمعته من والدها وهو يحكي عن صعوبة بناء هذا البيت الكبير وتكاليفه الباهظة، التي جعلت جدها خليل يعاني الأمرين لاستكمال بنائه الذي استمر لسنوات عدة، وكيف كان يرسل المجيديات من أفريقيا حيث يقيم من اجل ان يحظى بمنزل مناسب عندما يعود الى قريته في يوم من الايام.

تقول وداد التي كبرت وكبرت معها اسئلتها إذا كان لا بد من السنونو وإزعاجه في الليل والنهار وحركته المبكرة وصوته المتعدد النغمات أزيزا وطقطقات بين استغاثة او غضب او خوف او متعة، طوال فصل وجوده ليلا ونهارا فلا مناص من تحمل تبعات هذا الوجود لما له من تأثير ايجابي على حياتنا، لذلك تتحمل امي مهمة تنظيف البيت مرات عدة في النهار لتخلص المكان من فضلاته وقشه وما يتساقط مما ينقله لساكني عشه من قوت.

ولكن الأمر يختلف بالنسبة للصالحة.

بدأت وداد تعوّد نفسها على تقبل الغرباء في السكن معها في هذا المنزل الكبير الذي تتساقط منه الأتربة في اوقات مختلفة فتشعر بخوف وتعلل ذلك بحركة خفية تقوم بها الصالحة التي يتصالح معها افراد الأسرة دون وجل بينما تشعر هي بثقل هذا التصالح الذي يخيفها، خصوصا في ساعات الليل عندما يأوي الجميع الى فراشه وتبقى هي مفتوحة العينين تتأمل ما حولها وتخشى من حدوث شيء ما غير معروف العواقب. ماذا لو ظهرت لها الصالحة فجأة في هذا الليل الحالك؟ ماذا تفعل؟ وكيف تواجه الأمر هل تجرؤ على الصراخ لتهرب الصالحة وينقطع الخير والرزق عنهم؟ ام تسكت وتنام كأن شيئا لم يكن؟

تشعر الطفلة بمسوؤلية كبيرة تجاه اسرتها، حيث اوصتها أمها بعدم افشاء سر الصالحة او التحدث عنها مع اي كان. لأن ذلك يعني فقدان الخير الذي يغمر الأسرة ومعيلها.

تتساءل وداد بقلق ظاهر في عينيها وصوتها: ولكن أين هذا الخير الذي يتحدث عنه الجميع جدتي حورية وابي صابر وامي امينة، فهي لا ترى غير الشقاء الذي يلقي بثقله فوق ارجاء المكان والزمان، فالعائلة تدور حول نفسها بطريقة دونكيشوتية، لا تهدأ ولا تصل الى اي شيء، كأنهم ربطوا جميعا بحبل سري يقودهم في رحلة يومية من الشقاء وإليه، لا تكاد تنعم فيها برؤية وجه الأم الذي لا يعرف الليل من النهار، ولا ترى وجه الاب الذي يخرج باحثا عن رزقه عند بزوغ الفجر ولا يعود قبل هبوط الليل!

ولا تسمع منه سوى أصوات الشكوى والتذمر من سوء الحال، وما ان يلتهم عشاءه حتى يبتلعه النعاس والإنهاك. ما نفع هذا السقف العالي الذي تتوزع فيه اعشاش السنونو فتبدو مثل اورام توزعت على جسد المكان؟ وما نفع هذين القوسين العظيمين من الحجر الذين يحملان السقف وينتهيان بزوايا معتمة على هيئة غرف صغيرة تصلح لاختباء العفاريت وقصص الجان.

ولكن لماذا يصبح البيت هما عند وداد وهو ليس كذلك عند اشقائها الأربعة الذين يجيئون ويروحون ويمرحون ويشاغبون ويغيبون عن البيت في لهو وفي لعب، بينما تجلس هي في انتظار الخير وتنظر وتتساءل وتستفسر وتبحث عن أجوبة لأسئلة كثيرة تسكنها. لا تريد أن تدع الخلق للخالق تود ان تشارك في صنع وجودها بنفسها.

في لحظة التشكل العصيبة تلك تبدو لها الاشياء الممكنة مستحيلة، لا بد ان تجيب بنفسها على كل ما يشغل بالها من افكار، لماذا ترضى امها بهذا العذاب في تحمل اعباء وجود السنونو في عشه او تحليقه في فضاء البيت بكل ما يسببه من متاعب وازعاج وبعثرة للتراب في ارجاء البيت، بينما يعيش سكانه اسرى معتقدات لم تثبت الايام صحتها، فلا وجود السنونو يجلب الرزق، ولا سكن الصالحة يفتح ابواب الخير، وهي ترى بعينيها وتسمع بأذنيها كل ما تعانيه أسرتها من ألم وسقم، فلا الظروف اختلفت ولا المعاني ائتلفت ولا تغيرالزمان بتداعيات المكان.

في لحظة حاسمة تفكر الابنة في حل للمعضلة، ماذا لو انها صرخت بأعلى صوت لتطرد السنونو وتبعد الصالحة، التي تأتي في احلامها نائحة وتسمع بين الحين والحين انين الانين، وهي قابعة هنا -كما يقولون- على مر السنين؟...

تخرج وداد عن صمتها وتقف في باحة الدار وتصرخ بأعلى صوت: في بيتنا سنونو، في بيتنا صالحة! في بيتنا سنونو! في بيتنا صالحة! في بيتنا صالحة! تجمع الناس من حولها والجيران يتساءلون بخوف ماذا جرى لك يا وداد؟

وفجأة ترتفع فوق الرؤوس سحابة بيضاء وسط تحليق طيور السنونو وحالة من الذهول تعم المكان!

Provided by SyndiGate Media Inc. (Syndigate.info).

2024-05-07T18:06:34Z dg43tfdfdgfd